شكا صديقي المدرس مما حدث له ذات يوم عندما أجبره ناظر المدرسة على الدخول مدرس احتياط (بديل) في حصة دين مسيحي، لم يكن يشتكي من إجبار الناظر له وهو خريج الأزهر أن يحل محل مدرس الدين المسيحي، فهو مدرس منفتح ولا يضع تلك الأمور في باله، بل يشتكي مما فعله معه أحد الطلبة، فهذا الصديق لا يستطيع أن يجلس بلا حديث شيق وممتع، ففتح حوارًا مع الطلبة عن عيسى والأناجيل وبعض مما يعلمه عن المسيحية، ليس دين مقارن ولا شيء من ذاك القبيل بل محاولة منه لإظهار غزارة معلوماته وقراءاته، ثم في معرض الحديث أراد الاستشهاد بنص من الكتاب المقدس فسأل إن كان مع أحدهم كتاب مقدس، فأجابوا أن فلانًا معه، فطلب منه الكتاب بحسن نية، ولكن الفتى امتنع، فأصاب الجميع الإحراج، وحاول بعض الطلبة إقناع الفتى بإعطاء الكتاب للمستر، لكنه أجاب يعني أنت يرضيك مسلم يمسك كتابك؟، قال الصديق العزيز أنه شعر بمهانة كبيرة، لكنه أنهى الموقف وقال للطالب أنه لا مشكلة ولا داعي للكتاب، وسكت الكلام، وأُكملت الحصة صمتًا، لكنه شعر بعنصرية لم يسبق أن شعر بها من قبل، ولا شعر بها مرة أخرى، وأنه منذ ذاك الحين عرف مدى قوة العنصرية وثقلها.
Add caption |
فقلت له: ما حدث لك يا صديقي يذكرني بقصة حدثت مع خالي في أوائل الثمانينات (وما أدراك ما الثمانينات)،.إذ بعد وفاة جدي لأمي، وكان رجلًا محبوبًا في شارعنا، وواحد من أقدم سكانه، كما اعتادت أن تخبرني أمي، بأنه حين ابتاع هذا المنزل الذي نقطنه جميعًا، كان دورًا واحدًا وأغلب ما حوله مزارع، لذا كان بين جدي وبين الرجال المماثلين له في السن من قاطني الشارع عمار (كما يقولون). لذا حين توفاه الله حضر الكثيرين (إن لم يكن الكل) من جيراننا العزاء وتشييع الجنازة. وبعد مدة ليست بطويلة توفى عم إبراهيم وبين بيتنا وبيته بيت واحد، وكان ابنه عاطف (واحد من خمسة) مقارب لسن خالي ودرسا معًا في المدرسة الثانوية (كان خالي وقتها في السنة النهائية من كلية الهندسة)، لذا كان من الضروري أن يحضر العزاء والجنازة، ليس فقط لصداقته بعاطف ابن المرحوم، ولكن (كما قالت أمي) لصداقة العمر بين المرحومين، ولحضوره عزاء وجنازة جدي في شدة الحزن والتأثر، وأن خالي بديلًا عن العائلة يجب أن يحضر الدفن، ورغم أن مدافن العائلة كانت في قرية صغيرة على طريق المحلة، إلا أن المرحوم كان يعمل في النقل العام بالمدينة لذا قام أبناؤه الكبار بالتنسيق مع زملائه في العمل وإحضار بضعة أتوبيسات نقل عام إلى أول الشارع لنقل الرجال الراغبين في تشييع الراحل إلي مقره الأخير، لكن الابن الأصغر للمرحوم -وكان طالبًا في أولى جامعة لم يزل- حين صعد للأتوبيس ووجد خالي يجلس بين الجالسين حتى هاج وماج رافضًا أن يحضر نصراني تشييع الجنازة إلى مدافن المسلمين، وعبثًا حاول العقلاء من أهل الشارع تهدئته، وسحبه أخوه الأكبر بالقوة من الأتوبيس وكاد أن يضربه في الشارع أمام الناس، لولا تدخل العقلاء أيضًا، لكن خالي آثر السلامة وفضل أن ينزل من الأتوبيس وعزا عاطف وأخوته الأكبر عند الأتوبيس، فحاولوا خجلًا إثنائه عن النزول، والإصرار على بقائه معهم وحضور الدفن، لكنه صمم على موقفه مفضلًا إنهاء الموقف هنا بدلًا من تكراره مرة أخرى عند المدافن لا سمح الله.
ورغم مجيء الأخوة لاحقًا (ما عدا الشيخ محمد طبعًا) إلى منزلنا للاعتذار لخالي ولوالدتي عما بدر من محمد وانتهاء الأمر على مودة وبشر، إلا أن العلاقة التي كانت صداقة وعشرة بين كبار العائلتين (الله يرحمهما) صارت صباح الخير وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته بين الجيل التالي.
أخيرًا، وبعيدًا عن الشيخ محمد وجيل الثمانينات، والذين هم بالمناسبة أباء وأمهات جيل الأطفال الذي كنت تدرس له حصة الدين، بعيدًا عن الأشخاص جميعًا، فإن المسيحية ليس بها هذا المفهوم عن طهارة أو نقاوة أو ديانة من يمسك بالكتاب المقدس، فلا تمنع الحائض مثلًا من الإمساك بالكتاب أو ما شابه من المحظورات، لذا فهذا التصرف من الأطفال ليس تصرفًا دينيًّا بل طائفيًّا ينضح به المجتمع في كل مكان، للأسف.
#Who_am_I?